سرديات قصيرة ////////// شروة سمك !! ///////////////////

  سرديات قصيرة
ـــــــــــــــــــــــــــ                      
              شروة سمك
                                    بقلم
                           أحمد عبد اللطيف النجار
                                   أديب   عربي

  
الحياة مزيج من السعادة والشقاء ، والإنسان يسعى فيها ويصطدم بكثير من المحن والابتلاءات ، والقوي فقط هو الذي يصمد لكل المحن وكل الابتلاءات !
نعم قد يقع مرة ومرات ، لكنه لا ييأس ولا يصيبه الإحباط فيقف من جديد يحاول ويحاول ويحاول  !
صاحبي كارم عرف طعم اليتم منذ طفولته المبكرة ، حيث ماتت أمه وهو ابن سنتين ، تاركة وراءها بنتين وولداً وحيداً ، وتزوج أبيه من سيدة ريفية بسيطة أنجبت له ستة بنات ، وهكذا وجد الفتي نفسه ولداً وحيداً علي ثمانية بنات !
ووجد أسرته الكبيرة تعيش في شقة صغيرة من حجرتين وصالة تناطح الحياة وتكافح الفقر وقلة الحيلة !
مرت الأيام وأحيل أبو كارم للمعاش ، فانخفض دخل الأسرة للنصف وأصبحت حياتهم قاسية وأشد مرارة !
رغم كل الصعاب التي قابلتها تلك الأسرة الكبيرة ، فقد كان أبيه مصراً علي تعليم أبنائه ليجدوا لأنفسهم موطئ قدم في زحام الحياة .
واصل الأبناء تعليمهم تحت ضغط ظروف لا ترحم حتى حصل كارم علي شهادة الثانوية العامة بمجموع كبير رشحه للالتحاق بكلية الطب ، ساعتها توقف الفتى المسكين حائراً ، ماذا يفعل ؟!
إنه يعلم جيداً أن مصاريف الدراسة بكلية الطب مُكلّفة للغاية لا يستطيع احتمالها !
دار بينه وبين نفسه حوار داخلي طويل انتهى بأن أقنع نفسه بخوض التجربة ، وبدأ عامه الدراسي الإعدادي بكلية الطب ، واكتشف بعد قليل كذب أوهامه ، حتى أنه لم يستطع الحصول علي معظم الكتب الدراسية حتى نهاية العام الجامعي !!
لقد شعر بالغربة داخل مجتمع الكلية بمظهره البائس وملابسه القديمة !
رسب الفتي المسكين رسوباً فاضحاً ؛ فانطوى علي نفسه حزيناً يائساً ، وبعد تفكير طويل وجد أنه يحتاج لكي ينجح إلي العمل حتى يوفر لنفسه ثمن الكتب ، ويحتاج كذلك لإعادة تنظيم وقته بحيث لا يؤثر عمله على دراسته ، وبدأ علي الفور العمل في شهور الصيف وكان يستذكر دروسه في نفس الوقت .
التحق كارم في أول الأمر بأعمال بسيطة للغاية ، فكان يصحو في الفجر ويذهب لمنطقة الملاحات  كي يشترى من الصيادين ( شروة سمك) ــ بساريا ــ يضعها في كيس كبير ثم يطوف علي البيوت ، و
كان العائد المادي بسيط للغاية ، لكنه فتح شهيته للعمل ، وكان يساعد إخوته بما يكسبه ويمدهم ببعض القروش القليلة !
جاء العام الدراسي الجديد وانتظمت الدراسة واستمر الفتي كارم في كفاحه  وقرر أن يبحث عن عمل آخر يدر عليه عائد أكبر ، وهداه الله إلي مخزن لأنابيب البوتوجاز  وشاهد العمال يضعون الأنابيب على عربات ترولّى  صغيرة وينصرفون بها ، وبلا تردد وجد نفسه يتقدم لصاحب المخزن يسأله عما إذا كان يريد عاملاً جديداً، فتفحصه الرجل برهة ، ثم قال له : من أنت يا بني ؟!
عرّفه كارم بنفسه وأخرج له بطاقته الشخصية وكارنيه الكلية ، فتفحصها باستغراب شديد ، ثم قال له :  لا يعمل عندي إلا من أعرفه شخصياً ، لكني أتوسم فيك الأمانة ، وقد قبلت أن تعمل عندي !
ساعتها اندفع الفتي المسكين وصافح الرجل بشدة وشكره من كل قلبه  والرجل يستغفر الله .
في صباح اليوم التالي كان كارم يقف أمام باب المخزن ، ينتظر صاحب العمل ، وجاءت عربة الأنابيب  ووزع علي كل عامل حصته ، وراح كارم يدفع الترولي أمامه ويطوف علي البيوت وقد ربط الأنابيب بسلاسل حديدية في العربة ، واستمر في عمله الشاق أكثر من خمسة أعوام ، تحسنت خلالها ظروفه وظروف أسرته كثيراً ، لكنه فقد الكثير من صحته لصعوبة العمل الذي يمارسه ، وكان يبدو دائماً بين زملائه هزيلاً ، ضعيفاً .. واستلفت ذلك نظر زميلة له بالكلية ، جميلة ومهذبة ، وجدها ذات يوم تقول له : أنت مالك مبهدل ونايم علي نفسك دايماً كده ؟!
ثم شعرت عزة بالخجل الشديد وحاولت الاعتذار ، فهوّن عليها الفتي الأمر لشعوره باهتمامها به !
لقد أيقن كارم أخيراً بأنه رغم وصوله للسنة الرابعة بالكلية لم يكن
تنبه إلي أن في الكلية زميلات جميلات ، أو أن في الحياة من حوله فتيات عدا إخوته البنات !!
فهو مشغول دائماً بعمله الشاق وبدراسته وظروف حياته القاسية !
أصبح كارم كلما التقي زميلته عزة يبادلها التحية والحديث ، ووسع الله عليه في رزقه من عمله في بيع أنابيب البوتاجاز ، وذات صباح حمل أنبوبة بوتاجاز إلي شقة في الدور التاسع في عمارة فاخرة جديدة ، ودخل المطبخ وفك الأنبوبة الفارغة وركّب الجديدة وأجري لها اختبار الأمان ، ثم حمل الأنبوبة الفارغة على ظهره ومد يده إلي ست البيت ليتسلم الأجر ، فوجد إلي جوارها فجأة زميلته عزة والتقت عيناه بعينيها في لمحة خاطفة !!
ساعتها تأكد الفتي المسكين أنها عرفته رغم ملابسه المشحمة  والمنديل الذي يربط به رأسه ، لكنها لم تبد أي انفعال ، وأسرع كارم يهرول على السلالم !
ساعتها شعر كارم بضيق شديد، وكانت الخواطر السوداء تتدافع داخله ... ماذا ستفعل عزة ؟ ... هل ستذيع سره في الكلية ويتغامز الطلبة عليه ويهزئون به !!
هل سترحب بصداقته بعد ذلك، أم ستراه غير جدير بها ؟!! 
أمضى الفتى في بيته أسبوعاً كاملاً يغالب أحزانه  وضعفه وقلة حيلته ، لكنه بعد فترة ساءل نفسه : لماذا كل هذا الضيق وهو لا يخجل من ظروفه أمام أي إنسان ، إنه يعمل عملاً شريف كي يساعد نفسه وإخوته البنات ....، يا إلهي .. إذن فهو الحب، لقد أدرك أخيراً أنه غارق في حب زميلته عزة حباً صامتاً  يملك عليه عقله وكل كيانه ، لكن ما حدث هدم كل أحاسيسه وأحلامه !
مرت الأيام وقرر كارم مواجهة الواقع بشجاعة وذهب للكلية وهو يتحسب لنظرات الزملاء والزميلات ، لكنه فوجيء بأن العيون كلها
خالية من أي تعبير ، ثم جاءت زميلته عزة بنفس النظرة الهادئة المهذبة وقالت له : أين أنت أريد أن أتحدث معك ؟!
سألته بحنان عن قصته وحكى لها كارم كل شيء ، وعندما انتهى كانت نظرة الاحترام تطل من عينيها وهي تؤكد له أنه شاب مكافح شريف ، وأنها تتمني لنفسها رجلاً مكافح مثله !!
وأنها لا تعترض علي عمله في بيع أنابيب البوتاجاز ، لكنها تراه عملاً شاق جداً عليه ونصحته بضرورة البحث عن عمل آخر حتى يستطيع أن يكمل المشوار في دراسة الطب .
عمل كارم بنصيحتها وبدأ العمل كمدرس خصوصي لطلبة الإعدادي والثانوي في المنازل والمساجد .
مرت السنوات سريعاً وتخرّج كارم وكذلك زميلته عزة التي شجعته علي التقدم لطلب يدها من أسرتها ، واستجاب كارم لطلبها وليته ما فعل !
فقد سمع كلاماً لاذعاً كوى جسده وقلبه بالنار !!
ساعتها خرج مهزوماً ، مدحوراً وقرر الانسحاب نهائياً من حياة عزة ومن المدينة كلها ، وطلب نقل سنة الامتياز إلي أحد مستشفيات الصعيد بجنوب مصر .
حمل كارم ملابسه القلية وسافر للصعيد ، ومضت عليه الشهور ثقيلة ، مريرة وهو يتتبع أخبار عزة عن طريق شقيقته طالبة الطب .
انتهت سنة الامتياز وبدأت سنة التكليف في الصعيد ، وأفرغ كارم كل طاقته في العمل ورعاية أسرته ، فكان يرسل لهم كل راتبه الشهري ، مرت الأيام والشهور وعلم كارم أن زميلته عزة أرغمتها أسرتها علي الزواج من رجل أعمال ، وأنها غير سعيدة معه وحياتها في جحيم مستمر معه !!
ذات مساء كان كارم جالس في عيادته الخاصة ، يستقبل المرضي
وإذا به يجد أمامه فجأة عزة !!
كانت مفاجئة كبيرة أن تأتي هي بنفسها إليه !!
راحت عزة تحكي له بدموعها قصتها وكيف أنها حصلت علي الطلاق بعد حياة مريرة ، وأنها بحثت عنه كثيراً حتى عرفت عنوانه ، وأقنعت أهلها بأن يعطوها حريتها في اختيار شريك حياتها ، وسألت كارم : هل ما زلت ترغبني ؟!
ساعتها أجابها علي الفور : لن تعودي إلي مدينتك إلا وأنت زوجتي علي سنة الله ورسوله ، وتركها في العيادة وخرج ثم عاد ومعه مأذون البلدة وصاحب البيت الذي يقيم فيه وطبيب المستشفي الحكومي ، وعقد قرانه عليها ، وعاشا معاً أجمل وأسعد أيامهم في الصعيد ، ثم سافروا إلي أهلهم الذين باركوا زواجهم ، ورزقهم الله بطفلة رائعة الجمال !
صاحبي كارم كثيراً ما كان يسرح بخياله ، يستعرض ذكرياته وشريط حياته ابتداءاً من شروة السمك إلي سنوات البوتاجاز، إلي سنوات الحب المستحيل ، إلي الهزيمة والاندحار ، إلي اجترار الآلام والأحزان في صعيد مصر ، إلي عودة الحب الضائع وزواجه من حبيبته عزة !!
أخيراً ابتسمت الحياة للصابرين وهبطت عليهم جوائز السماء مقابل صبرهم وعزيمتهم التي لا تلين  !!
البداية كانت شروة سمك لفتي ضعيف مسكين يبحث عن موطئ قدم يبدأن منه كفاح الحياة الصعبة القاسية ، وساعده الله في مسعاه رغم كل الآلام والصعوبات التي قابلته ، لكنه لم ينكسر ولم ينحن لغير خالقه ، وشاءت إرادة الله أن يتزوج من اختارها قلبه ، فكانت النهاية السعيدة لفتي صلب العزيمة له من صفات الرجولة والمروءة ما يندر أن نجده بين شباب اليوم ، شبابنا دائم الشكوى من كل شئ
شبابنا (( غير العملي )) الذي يترفع عن الأعمال البسيطة ، أقصد أي عمل ((شريف)) يساعد به نفسه ، فاليد العليا خير من اليد السفلي كما قال رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم .
     


أحمد عبد اللطيف النجار
                                                      أديب  عربي





تعليقات