سرديات
قصيرة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
صرعى الحياة !
بقلم
أحمد عبد اللطيف النجار
أديب عربي
مرض الصرع من أخطر الأمراض وأصعبها وأبشعها !
هل تصادف ورأيت مصروع أثناء
نوبة الصرع ؟!
أنا شخصياً ( بحكم عملي ) رأيت
مئات الحالات ، إنه لشيء رهيب أن تشاهد الشخص المصروع المسكين ، وكأن هناك ((
وحشاً)) يريد الخروج من جلده وكل حواسه !!
شيء رهيب حقاً عندما تنظر لذلك
المسكين أثناء نوبة الصرع ؛ سوف ترى وتسمع أصوات (( من العالم الآخر)) بنغمات
مرعبة !
أخطر ما في الموضوع إذا تطورت
النوبة وطال وقتها ؛ عندئذ من
الممكن جداً أن يقطع المصروع
لسانه دون أن يشعر ، وذلك من شدة زيادة التيار الكهربائي في المخ ، لهذا أول شيء
تفعله في التعامل مع المصروع أمامك هو أن تضع في فمه قطعة ( مطاطة ) يعني ( عضاضة)
حتى لا يقطع لسانه دون أن يحس أو يشعر !
علماً بأننا (( جميعاً)) نعيش
بكمية محددة من الكهرباء علي المخ؛ إذا زادت عن الحد أدت ألي الصرع !!
وهناك الآلاف من الأطفال
المساكين يعانون من النشاط الزائد نتيجة زيادة الكهرباء علي المخ ، فيصابون بالصرع
ويطول علاجهم مدي الحياة ،فهو من الأمراض المزمنة .
لكن هل من حق هؤلاء المرضى
بالصرع الزواج عندما يكبرون ؟!
هل من حقهم التفكير في تكوين
أسرة سعيدة وحياة خاصة بهم ؟!
وفي حالات البنات اللائي يعانين
من الصرع ، هل من الواجب علي آبائهن مصارحة من يتقدم إليهن بحقيقة مرضهن ؟!
كل تلك الأسئلة دارت في رأسي
عندما تقابلت ( مصادفة) مع صاحبي القديم منذ عهد الطفولة بيومي ، فاجأني بيومي بأحزانه
الكبيرة علي ابنته نور الصباح ، وذلك لمرضها بالصرع منذ دخولها الجامعة ، يقول
بيومي :
أنا موظف بسيط تزوجت منذ 25
عاماً من زوجة فاضلة لم تنل قسط كبير من التعليم، لكنها ست بيت رائعة ومكافحة ،
فقد وقفت بجانبي في أحلك الظروف ، وأنجبت لي البنين والبنات بحمد الله ، وقد تعلموا جميعاً وتخرجوا وعملوا
، ولم يتبق سوى ابنتي الصغرى نور الصباح ،
وهي طالبة في عامها الجامعي الأول ، ولم يكن هناك ما يعكر صفو حياتنا رغم قلة
الدخل وكثرة المطالب .
فجأة وجدت ابنتي الحبيبة نور
الصباح تنتابها إغماءات مفاجئة تهاجمها في البيت وعقب الاستيقاظ من النوم مباشرة ،
وتفيق منها
بعد قليل ، فتشكو من صداع رهيب
نعالجه بالمسكنات .
لم تلفت تلك الإغماءات انتباهنا
في البداية ، لكنها بدأت تتكرر مرة كل أسبوعين، ثم كل أسبوع ، فعرضتها علي الأطباء
وتم عمل الفحوصات اللازمة والأشعات ، وكانت المفاجئة القاسية علينا جميعاً ،
إنها مصابة بالصرع ... يا إلهي ابنتي وقرة
عيني مصابة بالصرع وتحتاج إلي علاج لمدة عامين علي الأقل !
انتظمت ابنتي الحبيبة في العلاج
وبعد انتهاء العامين عدنا لنفس الطبيب ، فطلب منا الاستمرار في تناول الدواء مع
تقليل الجرعات ، ونفذنا تعليمات الطبيب حتى تخرجت في الجامعة بحمد الله ، وبعد
تخرجها تقدم لها شاب على خلق ودين ومستوى عالي من التعليم ويعمل بإحدى الدول
العربية .
تقدم إلىّ يطلب يدها خلال إجازة
الصيف ، وتمت الخطبة وبقي معنا فترة الصيف ثم عاد لعمله .
بعد سفره بثلاثة شهور فوجئت به
يطلب مني عقد قرانه علي نور وإرسالها إليه في مقر عمله بالخارج !!
ساعتها وقعت في حيرة كبيرة ،
فقد كنت أنا وأمها وإخوتها نتصور جميعاً أنها ستتزوج بالقرب منا حتى نتمكن من
رعايتها وتوفير العلاج اللازم لها ، فضلاً عن أنها لا ترغب أن يعلم أحد في الكون
بحقيقة مرضها حتى زوجها !!
بل وتشعر بأنه إذا عرف إنسان
بطبيعة مرضها ؛ فسيكون في ذلك نهاية العالم بالنسبة إليها !!
ساعتها يا صدقي وجدت نفسي في
مأزق كبير ولا أعرف كيف أتصرف ؟!!!
كيف أضمن علاجها في الدولة التي
يعمل بها عريسها إذا أرسلتها إليه ؟!
خاصة أن نوبات الصرع بدأت
تهاجمها من جديد بعد غياب أكثر من أربعة سنوات كاملة ، بل وزادت النوبات مع
اضطرابها وخوفها من أن يعلم خطيبها بحقيقة
وطبيعة وتطورات مرضها !
وقررت استطلاع رأي الطبيب
المعالج ، فوصف لها العلاج المناسب ورجعت حالتها تستقر من جديد ، لكني لم يهدأ لي
بال ولم أعرف طعم النوم منذ طلب خطيبها إرسالها إليه .. لا أدرى هل من الصواب أن أخبره
بحقيقة مرض ابنتي ؟
وإذ حدث وأخبرته فإنني علي يقين
أنه سوف يفسخ الخطبة ويكون في ذلك القضاء
المبرم علي نور الصباح وعلى مشاعرها التي لا تحتمل أي صدمات !
أم أرسلها إليه دون إبلاغه
بمرضها ؟!
ماذا تفعل يا صاحبي لو كنت
مكاني ؟!
صديقي بيومي يطرح سؤال صعب ، لكن
لابد من إجابة له ، ذلك أن أقسى ما يعانيه الإنسان من اختبارات الحياة هو أن تضطره الظروف لتحديد قراراته واختياراته
في طلب الرحمة أو العدل فيما يتعلق بسعادة أعزاؤه ومصائرهم !
الرحمة بابنته الغالية نور
الصباح تطالبه بكتمان سرها عن خطيبها
تحسباً لرد الفعل النفسي لو تراجع خطيبها وانسحب من حياتها نهائياً ، وفي
الوقت نفسه يطالبه الشرع والدين والعدل (( بضرورة)) إبلاغ خطيب ابنته بالحقيقة
كاملة ولو كانت مُرة !!
ذلك حتى يكون على علم كامل
بظروفها وحتى لا يحاسبه ذات يوم علي كتمان الحقيقة عنه قبل إتمام الارتباط النهائي
!!
صاحبي بيومي إذا تغاضي عن إبلاغ
خطيب ابنته المريضة بحقيقة مرضها فإنه بذلك يخدعه ، والزواج الصحيح لا يقوم علي
الخديعة أبداً ، وفي كل الأحوال ينبغي أن يكون العدل هو اختيارنا النهائي
مهما كانت النتائج !!
لذلك ((لابد)) من إقناع نور
الصباح بأنه لا خيار لأحد في الصحة والمرض ، ولا ذنب لأحد في مرضه ولا فضل له في
صحته ،وطبيعي جداً أن تتألم نور الصباح بعض الوقت
إذا تراجع خطيبها عن الارتباط بها
، ومن حقها أن تتألم لأقدارها القاسية ، لكن ذلك كله يهون أمام الخديعة والكذب في
بداية الحياة الزوجية ، ولسوف يعوضها الله خيراً وتنال جزاء الصابرين الحامدين الشاكرين ، ومن يدري فقد يتمسك بها
ذلك الشاب ويقدر صراحتها ، فالزواج أساسه المصارحة لا الخداع والزيف .
مجمل القول أنصحك صديقي الطيب
المبتلي بإبلاغ خطيب ابنتك بحقيقة مرضها ، وفي نفس الوقت تقنع نور الصباح بالتسليم
بإرادة الله سبحانه وتعالى ، وتقبل كل ما جرت به المقادير ، فالتسليم بأسوأ
الاحتمالات قبل خطوة البداية ؛ تهوّن على المرء مواجهة ما قد تحمله له الأيام من
أحزان ، وتحرر إرادته وقدرته على الفعل والحركة
بعد أن عرف منذ البداية أقصى ما يمكن أن يتعرض له من احتمالات ويستعد لذلك
نفسياً .... ولله الأمر من قبل ومن بعد .
أحمد عبد اللطيف النجار
أديب
عربي
تعليقات
إرسال تعليق