حكايات قصيرة &&&&&& يتامي الحياة &&&&&



                         
 حكايات  قصيرة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
                يتامى الحيـــــــاة  
                                                      بقلم
                         أحمد عبد اللطيف النجار  
                               أديب عربي



( فأما اليتيم فلا تقهر) آية حكيمة أنزلها المولى عزوجل من فوق سبع سمـــاوات
طباق ،واليتيم الحقيقى هو يتيم الحياة الذى لا يجد يد حانية تعطف عليه أو نفوس
كريمة زرع الله االرحمة فى قلوبها.
وحبيبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم هو رائد اليتامى وهو القدوة الحســــــــنة
لجميع المسلمين وللبشرية جمعاء ،وكلنا نعرف حديثه الكريم (أنا وكافل اليتيــــــم
كهاتين فى الجنة وأشار إلى أصبعيه السبّابة والوسطى ) فطوبى لليتـــــــــــامـــى
والمساكين فى هذا الكون الفسيح، الواسع ،والبُشرى لمن كفل يتيماً ولم يقــــهره
والويل كل الويل لمن كان قلبه قـُد من صخر وأظهر القسوة والغِل فى معامـــــــلة
اليتامى .
وهذا ما عايشته فى قصة صاحبى عبدالغفور الذى جاء إلى الحياة وحيداً مع أمـــه
البائسة التى فرت من عذاب زوجها ومعاملته القاسية لها ،فــّرت بوليدها الوحــيد
عبدالغفور إلى إحدى المدن الساحلية ،وفى تلك المدينة إستأجرت أمه غرفــــــــــة
وخرجت إلى الحياة لتكسب رزقها ورزق ولدها عبدالغفور ،وقامت بإلحاقه بإحدى
المدارس ، يقول عبدالغفور :
وجدتنى يا صاحبى أختلط بأطفال يتحدثون عن آبائهم ،ولا أجد أنا من أتحدث عنه
واستمر بنا الحال هكذا فترة من الزمن ،أمى تعمل حيناً وتتعطل فى أحيان كثيــــرة
ومضت السنوات سريعاً سريعاً ،حتى حصلت على الشهادة الإعدادية وإلتحقـــــت
بإحدى المدارس المتوسطة ،وكانت أمى فى تلك الفترة قد حصلت على الطــــلاق
من أبى وتزوجت من رجل متوسط العمر ويقيم فى شقة صغيرة ويعمل موظــــفاً ،
وتركنا الغرفة التى كنا نقيم بها أنا وأمى وذهبنا للإقامة فى شقة زوجها عســــران
واستقرت بنا الحياة معه عدة شهور ، ثم صحوت ذات يوم من نومى فلم أجد أمى
فى الشقة ،وإنما وجدت عسران زوجها يجمع ملابسى القليلة ويعطيها لى فــــى كيس قائلاً أنه تشاجر مع أمى خلال الليل وألقى عليها اليمين فخرجت من البيـــت
مع أول ضوء للصباح وتركتنى هكذا وحيداً،وأن علىّ أن أخرج من الشـــــقة وأن
أبحث لنفسى عن مأوى ، فأخذت كيس ملابسى وكيس المدرسة وأنا منكســــــــر
الخاطر والفؤاد ونزلت إلى الشارع فى السادسة صباحاً لا أعرف أين أذهــــب ولا لمن ألجأ ؟ وأسأل نفسى ماذا أفعل يارب ؟!!
ماذا فعلت فى دنياى كى يحدث ذلك لى ؟!
 لا أب ولا أم ،وسرت فى شوارع المدينة الخالية فى الصباح الباكر أرتجف من البرد وأفـّكر ماذا يستطيع أن يفعل صبـــــــى مثلى عمره 15سنة بلا أب ولا أم ولا أقارب ولا مأوى ولا مورد رزق؟!
وسالت دموعى رغماً عنى ،وفجأة استوقفنى بواب عمارة عجوز وسألنى مالك يا
بنى ،فقلت له: هل أستطيع أن أترك عندك هذا الكيس حتى أذهب للمدرسة وأعود
يا عم أيوب ،ورحّب الرجل بإرتياح وسألنى مرة أخرى عما يبكينى فرويت لـــــــه بإختصار قصتى واستمع لها متأثراً ،ثم دعانى للإفطار معه وأعطانى عشـــــــــرة قروش للمواصلات وذهبت إلى مدرستى وأمضيت فيها النهار حزيناً مكســـــــــور الخاطر وعدت إلى عم أيوب الطيب فوجد قد علّق ملابسى على مسمار فى غرفته الصغيرة وبادرنى بأنه قرّر أن أقيم معه إلى أن يقضى الله أمراً كان مفـــــــــــعولاً ،وطالبنى بالإجتهاد فى الدراسة لكى أتخرج وأعمل .
تصور يا صديقى ،هكذا وجدت المأوى بعد أن تخيلت منذ ساعات أن أرض اللـــــه الواسعة قد ضاقت بى ،وعشت مع هذا الرجل العطوف ودارت الأيام دورتها وكنت أساعده فى عمله مثل مسح سلم العمارة وقضاء طلبات السكان ،وكان الله يرزقنى قروش قليلة من عملى هذا ،وكنت أرتدى الزى الموّحد للمدرسة طوال اليوم نهاراًَ وليلاً ،ووفقنى الله وانتقلت للسنة الثانية ،وفى أجازة الصيف كنت أعمـــــل فى أى عمل (حلال) كى أوّفر مصاريف الدراسة!                                                  وعندما بدأ العام الدراسى الجديد ،تفتق ذهنى عن وسيلة جديدة لكسب الــــــــرزق ،فإدخرت بضع جنيهات وبدأت أنهض مبكراً كل صباح ثم أذهب إلى الفرن لأشترى ثلاثون رغيفاً من الخبز الأفرنجى وبعض الجبن والطعمية ،ثم أصنع الســـدوتشات وأضعها فى حقيبة كتبى وأذهب للمدرسة فأبيعها لزملائى الطلبة فى الفســـــــــحة واكسب فى كل ساندوتش قرشاً أو قرشين واستمرالحال معى هكذا إلى أن شـــــعر فراشين المدرسة بعملى وهو بالطبع لا يرضيهم أن يشاركهم أحد فى رزقـــــــــهم ،فأعدوا لى (كميناً) نعم يا صديقى لقد تعمدوا إذلالى وإهانتى أمام زملائى عندمـــا
 كنت أقف ذات يوم فى فناء المدرسة أبيع الساندوتشات لزملائى متســتراً لأن ذلك ضد اللوائح لتعارضه مع وجود مقصف يبيع الطعام للطلبة ،فلم أشعر إلا وعدد من فرّاشى المدرسة يحيطون بى من كل جانب كما يحيط رجال الشرطة بمــــــــــوّزع المخدرات ،ثم يطبقون علىّ ويخطفون الحقيبة من يدى فتنفرط وتقع جمــــــــــيع الساندوتشات على الأرض ! وتجّمع التلاميذ حولى فشعرت بمهانة كبيرة لم أشعر بها من قبل فى حياتى رغم شقائها وانفجرت فى البكاء بغير وعى واستسلمت لهم ودفعونى إلى حجرة مدير المدرسة ،وقبل أن أصل إليها جاءتنى رحمة الله وعطفه باليتامى أمثالى ،فقد سمع الأخصائى الإجتماعى بالمدرسة أصواتنا وجاء مهرولاً إلينا وأمر فرّاشى المدرسة بأن يتركونى وأخذنى معه إلى حجرته واستـــــمع إلىّ جيداً ،والله يا أخى لقد رأيت الدموع تفر من عينه تأثراً بما سمع من قـــــــــصتى ومأساتى، وهذا من رحمة ربى بى أن قيّض لى إنساناً رحيم القلب ذو إحســــاس مرهف ،فقد وقف بجانبى وذهب معى إلى مدير المدرسة وعرض عليه الموضوع كله بمنتهى الأمانة والموضوعية ،فأصدر المدير قراراً بتعيينى بمقصف المدرسة لإعداد الساندوتشات للطلبة فى الفترة الثانية بأجر يومى قدره جنيهان ونصـــف !
هكذا يا صاحبى وجدت الأمان والرزق فدعوت للأخصائى الإجتماعى ومـــــــــدير المدرسة أن يجزيهما الله خير الجزاء على ما فعلاه معى ، وتحسّنت أحوالى كثيراً بل وواصل الأستاذان مساعدتى ومؤازرتى فى كل مشاكلى ،ولأول مرة استطعت شراء زياً مدرسياً جديداً بدلاً من الزى المهلهل الذى كنت أرتديه بإستمرار منذ عامين ،وانتهت دراستى وحصلت على شهادتى المتوسطة ،لكن المشكلة الكبرى التى تقابلنى حالياً هى صعوبة بل إستحالة الحصول على عمل ! وماذا يفعل يتيم مثلى لا أب له ولا أم تحنو عليه ؟! فنحن يتامى الحياة ينشغل عنـّا المجتمع وأطلق الناس علينا مؤخراً (أولاد الشوارع) وكأننا حشرات قاتلة أو جراثيم معدية يخشى منها الجميع !!
وهكذا نرى أن أطفال الشوارع فئة من المجتمع عاشت وما زالت تعيش مظلومة من الجميع ، والله لقد تمزق قلبى تأثراً بمأساة صديقى عبدالغفور ،وقلت له هوّن عليك يا أخى وأعلم بأن الله معك وهو معك دائماً ،تذّكر ذلك عندما هيّأ لك المولى فى زحام الحياة عم أيوب ذلك العجوز الطيب الذى وجدك يتيماً فأواك ، أنت يا صاحبى من يتامى الحياة الذين قال عنهم أمير الشعراء أحمدبك شوقى :
ليس اليتيم من إنتهى أبــــــــواه            من هم الحياة وخلّفـــــــــاه ذليــــــــــلا
إن اليتيم هو الذى تلقى لــــــــــه            أماً تخـــّلت أو أبـــــــــاً مشغـــــــــــولا
هذا هو بيت القصيد يا صديقى ،فيجب على المجتمع العربى والمسلم بأجمعه أن يتكاتف لمساعدة هؤلاء اليتامى المساكين ،وذلك بأن يكون لهم الأولوية المطلقة فى جميع المهن والوظائف وذلك لحمايتهم من الإنحراف والغرق فى بحر الحياة الجارف وقسوة الأيام التى لا ترحم أحد!!
ويكفيهم معاناتهم من البؤس والحرمان والشقاء منذ فجر طفولتهم وربيع شبابهم
اطمئن يا صاحبى وكن على يقين بأن الله عز وجل سوف يسّخر لك ولأمثالك من يتامى الحياة  مَن يحنو عليهم ويمد لهم يد العون والمساعدة والعمل الشريف .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


   أحمد عبد اللطيف النجار
                                                       أديب  عربي








تعليقات