سرديات
قصيرة
نهر
الحرام
بقلم
أحمد
عبد اللطيف النجار
أديب عربي
الفرق بين الحلال والحرام كالفرق بين السماء والأرض . جرّب وانطق كلمة حرام
سوف تلاحظ أن فمك مغلق تماماً ، ثم انطق كلمة حلال ستلاحظ أن فمك مفتوح تماماً !
هكذا نرى الحلال يفتح البيوت العامرة بنور الله ، وعلى النقيض نجد الحرام
يخرب ويقفل البيوت ويهدمها ويشرّد أبنائها !
فيفي ، تعمل راقصة بأحد الملاهي الليلية وتقيم بمفردها بالدور السابع بأحد
العمارات الكبيرة . الجميع يتجنبونها ويقاطعونها
فلا كلام ولا تحية إذا قابلت أحد السكان بالمصادفة في مدخل العمارة .. كان
من النادر أن يراها أحد !
فجأة انقطعت أخبارها كلياً عن الجميع ولم يعد يراها أحد في مدخل العمارة
أو على السلالم ، فقد تزوجت من عمّار رئيس فرقتها الموسيقية واستقرت في شقتها
بالدور السابع ولم تعد تغادرها إلا للذهاب إلى السوق وشراء احتياجات البيت مثل أي
زوجة أخرى .
ذات مرة صادفتها نعيمة ؛ إحدى جاراتها على السلم وفوجئت بها في صورة
مختلفة تماماً تدعو للاحترام والدهشة في آن واحد ! فقد كانت فيفي محّجبة حجاباً
جميلاً ووجهها خال من الأصباغ ومظهرها هادئ ومحترم ، فبادرتها نعيمة بالتحية لأول
مرة وأجابتها فيفي ( الرقصة المعتزلة) بحرارة وترحيب .
مرت الأيام وأنجبت فيفي مولودها الأول واحتفلت بتلك المناسبة احتفالاً عائلياً بسيطاً ووزعت الصدقات ، وأرسلت
علب البونبون لأطفال العمارة فتقبلتها جاراتها بلا اعتراض وازدادت أواصر الصلة
بينها وبين سكان العمارة ، فكانت تحرص علي نيل مودتهم في المناسبات المختلفة وفي أداء واجبات التهنئة
والمواساة وزيارة المرضى ، أما زوجها عمّار فقد اكتسب احترام الجميع بغير جهد كبير
بشهامته معهم وبطبيعته غير المفتعلة كإنسان خدوم يبادر بخدمة أي جار يحتاج إلى
خدمته ، وبأدبه الجم وغضه البصر مع كل سيدات العمارة ، وع كثرة اختلاط فيفي بسكان
العمارة من السيدات علموا منها أن أهلها تبرئوا منها لعملها السابق كراقصة .
عاشت فيفي مع زوجها في سعادة وهناء ، وفجأة مات زوجها عمّار بالسكتة
القلبية وتطوع كل سكان العمارة في إنهاء إجراءات دفنه . وأصرت زوجته على تحمل
نفقات الجنازة ، وحين سألتها جاراتها عن أحوالها المادية ، أجابت باقتضاب أنها
مستورة والحمد لله ، وفي الواقع كانت المرأة تواجه أزمة مادية خانقة ، لكنها كانت
تتعفف عن أن تشير إلى أزمتها بعزة نفسها ورفضت أي عرض للمساعدة بإصرار !
اضطربت أحوال فيفي فاضطرت لتحويل أوراق أبنائها من مدرسة اللغات إلى مدرسة
حكومية ، وبدأت تبيع آلات زوجها الموسيقية من حين لآخر كي تواجه نفقات أولادها
وحياتها المعيشية ، وعندما عرض عليها أحد الجيران أن يقدم لها مرتباً شهرياً
يعينها على حياتها ؛ اعتذرت شاكرة وأبلغت زوجته بأن من يريد أن يساعدها فليوجد لها
عملاً شريفاً تنفق منه على أولادها اليتامى .
ومن خلال اضطرارها لبيع آلات زوجها الموسيقية عاد بعض أصدقاء الوسط الفني
القديم الذين حجبهم عها زوجها للظهور في حياتها وزيارتها من جديد ، وسوس لها بعضهم
بضرورة العودة إلي عملها السابق كراقصة وسوف تجد حلولاً سحرية لكل مشاكلها المادية
، لكن الله عصمها ورفضت بشدة مجرد مناقشة الفكرة ، قالت أنها لن تخون زوجها الراحل
وأطفالها بعد أن هداها الله للإيمان والاستقامة ، فعرض الجيران عليها أن تعمل
مربية وشغالة لدى إحدى الأـسر ،فقبلت ذلك ما دام عملاً شريفاً لا يسيء لأولادها
بعكس عملها القديم ، وذهبت على الفور إلى تلك الأسرة ، فإذا بها ترفضها لسبب عجيب
هو أن مظهرها فخم وأنيقة للغاية حتى في حجابها الجميل !
عادت فيفي باكية تقول : يا ربي .. ماذا أفعل بملابسي هل أبيعها هي الأخرى؟
لماذا ينبغي علىّ أن ارتدي الملابس الرثة لكي أحصل على عمل شريف ؟!
بعد فترة أرسلها جار آخر إلى صديق له يمتلك مصنع للملابس الجاهزة لتعمل
عاملة في مصنعه ، ذهبت إليه واستقبلها ثم طلب منها الانصراف وانتظار رده مع صديقه
، ثم اتصل بجارها معتذراً عن عدم تشغيلها بالمصنع لأنها لا تصلح كم قال أن تعمل
عنده بل يعمل هو عندها !
هكذا تعرضت تلك المرأة المسكينة للمحن تلو المحن وطريق الغواية ونهر
الحرام يدعوها بشدة للغوص في أعماقه وهي
تمتنع وترفض أي مغريات !
لكن إلى متى تصمد ؟!... الإغراءات كثيرة من حولها ، وشياطين الإنس يحومون فوقها
وتحتها يزينون لها طريق الخلاص من كل مشاكلها ، والمجتمع أصم لا يسمع ولا يري ،
صارت البشر كالحجارة أو أشد قسوة !
إلى هذا الحد أصبح الحرام سهلاً وكل طرقه مفتوحة وصار الحلال صعباً بل من المستحيلات !
لقد ذكرتني مأساة فيفي بقول الإمام الشافعي رضي الله عنه :
ومن الدليل على القضاء وحكمه
بؤس اللبيب وطيب عيش الأحمق !!
ذلك هو واقع الحال في مجتمعنا الشرقي الذي صار بكل حسرة وأسى مجتمعاً أحمق
لا تسوده المودة والرحمة بل يساعد المنحرف كي يزداد انحرافاً ويوصد أبوابه أمام
التائبين النادمين ، والراجين لكسب عيشهم من العمل الشريف !!
ما أغاظني حقاً هو صاحب مصنع الملابس الجاهزة الذي رفض أن تعمل عنده تلك
المرأة البائسة . فليس هكذا نعين من اختار الرزق الشريف راضياً بعائده البسط ،
قانعاً بما رزقه رب العباد ، و هناك على الضفة الأخرى من النهر من يناديه أن هلم
لترد نبعاً من الحرام لا ينضب وتجد كل ما تحتاج إليه أو تحلم به بلا حساب ولا عناء أو مشقة !
ذلك هو الفرق الواضح والأكيد بين الحلال والحرام .
اللهم باعد بيننا وبين الحرام كما باعدت بين المشرق والمغرب ، وقرّب بيننا
وبين الحلال واجعله قرة عين لنا وأغننا عن جميع خلقك يا أرحم الراحمين .
أحمد عبد اللطيف النجار
أديب عربي
تعليقات
إرسال تعليق